نحل العسل والمناعة المكتسبة

نحل العسل والمناعة المكتسبة

نحل العسل والمناعة المكتسبة

للحشراتِ أهميّةُ بالغةٌ في حياة البشر، حيث يقع جزءٌ كبيرٌ من مهمة تحقيق الأمن الغذائي العالمي على عاتقها. لماذا؟ لأنّها تقوم بتلقيح الأزهار التي ستعطي ثماراً مختلفةً تدخل في أنظمتنا الغذائية، ونظراً لهذا الدور الهام المنوط بها، يسعى الباحثون لإيجاد طرق تساعد هذه الحشراتِ الهامة على المستويين البيئي والاقتصادي على مقاومة الأمراض التي قد تصيبها. كيف؟

من خلال تمنيعها ضد الأمراض المنتشرة في بيئتها باستخدام لقاحاتٍ تمّ اكتشاف وجودها في تلك الحشرة الصفراء المُخطّطة التي ما زالت تُدهشنا بما تقدّمه لنا من دروسٍ هامةٍ في كيفية التعامل مع البيئة.. النّحلة! لنتعرفَ معاً على ما هو جديدُ مملكة النحل .

يحصل الإنسان على المناعة بشكلٍ طبيعيّ أو مُكتسبٍ، ولكن عندما يتعلّق الأمر بتمنيع النّحل لصغاره، فلا خيارَ أمامه سوى التمنيع الطبيعيّ للذراري الجديدة ضدّ أمراضٍ محدّدةٍ موجودةٍ في البيئة المحيطة به. للمرّة الأولى، يكتشف العلماء كيف يقوم النحل بذلك فاتحين الباب أمام تطوير لقاحاتٍ للحشرات، ولهذا أهميةٌ كبيرةٌ بالنسبة للنحل على وجه الخصوص ـ والذي انخفضت أعداده في العقود الستّ الماضية ـ نظراً لدوره الاقتصادي الهام حيث يحافظ على وجود الفواكه والمكسرات والخضار في أنظمتنا الغذائية.

اكتشف الباحثون من جامعة أريزونا وجودَ بروتين في دم النحل، اسمه vitellogenin والذي يلعب دوراً هامّاً في تأمين الحماية من الأمراض لصغار النحل. ووفقاً للبروفسور Gro Amdam المؤلّف المشارك في الدراسة فإنّ انتقالَ المناعة من النحل إلى صغاره ـ والذي كان يُشكّل لغزاً فيما مضى ـ قد أصبح جَليّاً وذلك بعد 15 عاماً من إجراء الأبحاث الأساسية على بروتين vitellogenin

كيف تنتقلُ المناعةُ إلى صغارِ النّحل؟

في سلالة نحل العسل، نادراً ما تغادر الملكةُ الخليةَ لذا فإنّ على عاملاتِ النحل إحضار الطعام إليها، وقد تحمل هذه العاملات بعضَ العوامل الممرضة من البيئة أثناء جمعها لحَبّ الطّلع والرحيق، وعند عودتها إلى الخلية تستخدم ما جمعته من حَبِّ الطّلع لصنع الغذاء المَلّكي الذي يُحضَّر خصيصاً للملكة والذي قد يحوي على بكتريا من الوسط المحيط.

وعندما تتناولُ الملكة هذا الغذاء يتمّ هضم العوامل الممرضة في القناة الهضمية لتنتقلَ فيما بعد إلى أنحاء الجسم وتُخزَّنَ في الجسيم الدهني للملكة queen’s ‘fat body’ ـ وهو عبارة عن نسيجٍ مسؤولٍ عن تخزين الطاقة وتحريرها خاصةً أثناء نمو اليرقات أو عند قلة الغذاء ـ ترتبط أجزاءٌ من البكتريا (أجزاءٌ من الجدار الخلوي مثلاً) ببروتين vitellogenin ثمّ تُحمَل عبر الدم إلى البيوض الآخذة في التطوّر داخل جسم الملكة. وبذلك يكون قد تم تمنيع صغار النحل وأصبحت أجهزتها المناعية أكثر استعداداً لمحاربة الأمراض فور خروجها من البيوض. والفضل في هذا يعود بالطبع إلى بروتين vitellogenin الحامل لهذه الإشارات المناعية الأولية immune-priming signals وهو شيءٌ لم يكن معروفاً من قبل.

هل ستصبح المناعةُ المكتسبة خياراً ثانياً أمام نحل العسل؟

بعد أن تمكّن الباحثون من فهم الآلية التي يقوم النحل بتمنيع صغاره من خلالها فُتِح البابُ لابتكار أول لقاحٍ طبيعيّ يُمكن تناوله من قبل الحشرات، حيث يتمّ العمل على تسجيل براءة اختراعٍ للقاحٍ عديم الضرر بالإضافة إلى تكثير اللقاح وتقديمه لخلايا النحل على شكل مُستخلص يُمكن للنحل تناولُه وبالنتيجة مقاومة الأمراض.
سنطرح مثالاً لواحدٍ من أمراض عديدة يرى الباحثون أنّ اللقاح سيكون ذو فائدةٍ عظمى إذا ما تمّ استخدامه لمكافحتها وهو أحد الأمراض المُهلِكة التي تصيب النحل واسمه مرض تعفّن الحضنة الأميركي American Foul Broodi إذ ينتشر بسرعة مدمّراً خلايا النحل، حيث تُصاب اليرقات بالبكتريا من خلال تناولها للغذاء الملوّث بأبواغ البكتريا، وتحصل هذه الأبواغ على غذائها من اليرقات لينتهي الأمر بموت اليرقات في نهاية المطاف.

ما فائدة هذا الاكتشاف للإنسان؟

من المعروف أنّ المُلقِّحاتِ (الحشرات التي تقوم يتلقيح أزهار النباتات) بما فيها النحل تواجه أخطاراً بيئيةً حقيقيةً فخلال العقود الستة الماضية انخفض تعداد سلالات النحل في الولايات المتحدة من 6 ملايين في عام 1947 إلى 2.5 مليون حالياً، ولم يكن السببُ إصابةَ النّحل بالأمراض فحسب، بل بسبب ظاهرة تُسمّى “اضطراب انهيار المستعمرة” colony collapse disorder والتي لا يعرف العلماء لها سبباً حتى الآن ولكن قد تشكّلُ المبيدات الحشرية والآفات والعوامل الممرضة عواملَ مساعدةً في حدوثها.

واعتمادا على تقرير حكومة الولايات المتحدة لعام 2014 فإنّ للملقِّحات دوراً فعالاً لاقتصادٍ صحيّ كما أنّها ضروريةٌ للأمن الغذائي وتساهم في 35% من إنتاج الغذاء العالمي، ففي أمريكا الشمالية تلقِّح الحشرات 87 نوعاً من بين 115 نوعٍ من المحاصيل الغذائية فلنحل العسل دورٌ كبيرٌ في استمرار تواجد الفواكه والمكسرات والخضار في أنظمتنا الغذائية. لذلك فإنّ تمنيع الحشرات قد يلعب دوراً هاماً في مساعدتها على مقاومة اضطراب انهيار المستعمرة بالإضافة إلى مقاومة العديد من الأمراض.

أهمية البحث على المدى البعيد:

بما أنّ كلَّ أنواع الحيوانات التي تتكاثر بالبيوض بما فيها الأسماك والدواجن والزواحف والبرمائيات والحشرات تمتلك بروتين vitellogenin، فمن الممكن أن يكونَ لهذا الاكتشافِ فوائدَ بعيدةَ المدى بالنسبة لإنتاج الغذاء وكذلك لتلك الأنواع على حدّ سواء.

وبما أنّ هذا اللقاح الطبيعي سيكون في متناول الجميع حتى في البلدان النامية نظراً لسهولة استخدامه وانخفاض تكلفته، فإنّ ذلك سيضمن أنّ الصناعة الغذائية ستتمكّن من تحسين إنتاج الغذاء وتحقيق الأمن الغذائي الذي فيه خيرٌ للبشرية جمعاء.

لنا أن نتساءل بعد هذا الاكتشاف.. ما هو الدرس القادم الذي يُخبّئه لنا النحل في جعبته والذي طالما أتحفنا بما يمتلكه من فنون مذهلة للتعامل مع البيئة.

تكنو ستاك - تصميم مواقع و تطبيقات - وبرمجة انظمة ويب

website Design